منجم فري ستيت

 

أولاً :

وقد اقتنع القاضي أن وود كان الوحيد في مجموعته الذي أطلق النار وأنه أطلق عيارات نارية تتراوح طلقات وثلاثين طلقة، وأنه فعل ذلك دفاعا عن النفس. ولا أحد يعلم شيئا عن عدد المنقبين غير القانونيين الذين كانوا تحت الأرض في ذلك اليوم، ولكن عندما دهمت الشرطة منجم أورورا بعد أربعة أشهر من تلك الحادثة، اعتقلت أكثر من 200 شخص. وفي عملية دهم سابقة كان مسرحها أحد المناجم الواقعة في إقليم فري ستیت Free State هاجم المنقبون غير القانونيين الشرطة بالحجارة وقد قتلت الشرطة في ذلك اليوم شخصا واعتقلت 426 شخصا. بين سبع في اليوم الذي توجهت فيه مع باد براد إلى منجم أورورا راقب حارسان البوابة وكانت معنوياتهما متدنية. وأسفل منهما بعشر أقدام كان سور الحلقات المسلسلة مرميا على الأرض بعد أن اقتحمه أحدهم بمركبة. وآلت المباني القرميدية إلى حطام من نوافذ مكسرة وأبواب مفقودة وفتحات عبر الجدران. لقد طوفت مجموعة غوغائية بصفوف سكن عمال المناجم التي لا أسقف لها. لقد سرقت الأسقف، وكان الرجال يحفرون الخنادق بحثا عن الذهب عيانا. وجمعوا مخلفات الحفر في عربات اليد ونقلوها إلى موقع مركزي لشطفها في المصوّل (*)) واستخراج ما تبقى من الذهب فيها. وفي طريق العودة بالسيارة مرّت بقربنا سيارة دودج صفراء قديمة تسير بسرعة خاطفة، وكانت ملأى بالشباب. وقد ذكر وود أن هؤلاء كانوا مهربين يجمعون مركز الذهب. وبعد بضعة أميال تسلقنا حافة إحدى الحفر ونظرنا داخلها كانت هناك عصابة منصرفة إلى سرقة الفلز في وضح النهار.


ثانياً :

كانت الحفرة تقود إلى منطقة تحوي فلزا عالي التركيز في الأسفل، وكانت تلك الحفرة عبارة عن نقطة التجميع التي يستخدمها اللصوص. وامتدت قنوات أورورا أسفل أرضية الحفرة راقبنا المنقبين بينما كانوا يزحفون خارج منجم إحدى الفتحات. وقد صفت أكياس الفلز في أنساق ووقف الحمالون في رتل أمام صف من الشاحنات. تعتبر سرقة الفلز من مناجم الذهب مشروعا شائعا في جنوب أفريقيا. وينهب اللصوص ما قيمته نحو مليار دولار سنويا من الفلز، أو ربما ضعف ذلك. إن الفارق بين هذين التقديرين مؤشر إلى مدى شح المعلومات المتوافرة لدى السلطات حول هذه المشكلة، وتعتبر سرقة مناجم الذهب من الموضوعات المألوفة في جنوب أفريقيا، ويعتقد العديد من الناس أن الشرطة متواطئة فيها. بعد عدة أيام من زيارتي لسبرينجز ركبت قطار جاوترين Gautrain الداخلي عالي السرعة في محطة روزبانك Rosebank في جوهانسبرغ، ومضيت قاصدا بريتوريا العاصمة الإدارية لجنوب أفريقيا لمقابلة رجل شرطة قبل التحدث إلي عن جرائم مناجم الذهب وعلاقتها بالنخبة القوية المتنفذة. في ضاحية هاتفيلد أقلتني سيارة شرطة في رحلة مدتها عشر دقائق إلى مجمع رحب مسور من الأبنية القرميدية ذات الطابق الواحد - وكان مقر وحدة الصقور (هاوكس Hawks، وهي وحدة النخبة في شرطة جنوب أفريقيا. ومررنا في طريقنا بمقر الحرس وانتقلنا عبر المجمع، ثم توقفنا عند مبنى ذي طابق واحد منعزل كان المبني يتكون من مرآب يتسع لسيارتين وفيه زوج متطابق من سيارات فولكس فاجن GTI ترسلان أشعة أنوارهما الأمامية على الطريق المخصص للسيارات.


ثالثاً :

 كان هذا المنزل بمساره المشيد من الحجارة المسطحة والسياج مشذب الحواشي يبدو مثل منزل ميسور التكلفة في بالو آلتو، دلفنا إلى الداخل وجلسنا في قاعة اجتماعات صغيرة. وأرسلت شمس الشتاء أشعتها عبر الستائر ذات الشرائح. كان العقيد ماكينتوش بوليلا Mcintosh Polela المتحدث الرسمي لوحدة الصقور، حسن الزي مشدود القوام. وقد ارتدى قميصا مخططا باللون الرمادي، حلّ ) الداخلي: أي داخل المدينة.

زريه العلويين. كانت لبنطاله ثنيات حادة كالسكين وكان حذاؤه لماعا بفعل الطلاء الكثيف. وكان حليق الرأس. وقد عمل مراسلا تلفزيونيا قبل أن ينضم إلى وحدة الصقور بصفة المتحدث الرسمي، وكان سلوكه رصينا جادا وفتح مفكرة ذات غلاف ثخين كانت صفحاتها تحتشد إلى حواشيها بكتابة يدوية أنيقة متراصة. وقد عرض مشكلة انتشار العنف والسرقة المتمثلة في التنقيب غير القانوني في جنوب أفريقيا، وهو يقرأ من هذه المفكرة. مع ارتفاع سعر الذهب والحالة البائسة للفقراء، احتل المنقبون غير القانونيين مناجم الذهب المهجورة والأجزاء الخاوية من المناجم العاملة، وخلقوا عرضا (*) من الذهب غير القانوني. لم تقتصر المشكلة بالنسبة إلى جنوب أفريقيا على السرقة فقط، بل امتدت لتشمل حالة الاضطراب الاجتماعي. ووفق بوليلا كان العديد من المنقبين غير القانونيين مهاجرين غير شرعيين قدموا من زيمبابوي وليسوتو وموزمبيق ومالاوي وناميبيا. وقد أثار وجودهم حنق الطبقة الفقيرة في جنوب أفريقيا، وكانت تلك الطبقة نفسها تعيش في حالة من الفاقة الدائمة واتخذت اللجان الشعبية إجراءات دموية في مواجهة المهاجرين. ووفق بوليلا واجهت الشرطة مشكلات أخرى مثل عدم قدرتها على مطاردة المنقبين غير القانونيين تحت الأرض. 


رابعاً :

ولم يكن يعوز تلك الشرطة التدريب على العمل في المناجم فقط، بل لم تقبل شركات التأمين أيضا بتوفير التغطية التأمينية لعناصر الشرطة، وإن توافر لديهم التدريب الكافي. وقد ذكر بوليلا أنه: «في حوادث إطلاق النار في منجم أورورا لا تُشمل الحوادث بالتغطية التأمينية إن كان من تعرض الإطلاق النار هم عناصر الشرطة. ولأن الشرطة غير قادرة على مطاردة المجرمين تحت الأرض، باستثناء أن يتحمل الضباط أنفسهم تبعات ذلك، فقد استطاع المنقبون غير الشرعيين إيجاد مناطق يحظر دخولها فوق الأرض وتحتها، وفرضوا ذلك الواقع بقوة السلاح. ولم تقتصر المسألة على أربعين أو خمسين من المنقبين، كما هو الحال في منجم أورورا. ففي منجم ويلكوم Welkom في إقليم فري ستيت كان أكثر من 1500 من المنقبين غير الشرعيين يعملون فوق الأرض وكان 270 يعملون تحت العرض: الكميات المعروضة للبيع، ومقابله الطلب.


خامساً :

الأرض. ويذكر بوليلا أن «المنقبين غير القانونيين يخلقون جيوب التنقيب الخاصة بهم، وأحيانا بمساعدة المنقبين القانونيين». لقد دأبوا على هذا العمل طوال عقود، فكانوا ينهبون المناجم من الداخل. (*) (20) وقد ورد في جامع موضوعي ) صدر في العام 2001 المصلحة صناعة المناجم، وأعذه معهد الدراسات الأمنية لجنوب أفريقيا أن المجموعات حسنة التجهيز، التي يناهز عدد أعضائها خمسة وعشرين منقبا في آن معا استطاعت اختراق المناجم عن طريق تقديم الرشى لحراس الأمن وأجرت هذه المجموعات أعمالها التفجيرية تحت الأرض باستخدام متفجرات مسروقة. لقد أنشأوا مرافق تكرير (**) صغيرة واتخذوا من القنوات الخاوية مقرا لهم كان بحوزتهم خرائط مفصلة للمناجم، وكانوا قادرين على ريادة المتاهة تحت الأرضية بأريحية. وقد هدد المنقبون غير القانونيين لا بل هاجموا مفتشي المناجم الذين كشفوا الستر عنهم. وفي القنوات ذات الرجع (***) ، استطاع اللصوص أن يتبينوا بسهولة وقع أقدام فرق أمن المناجم وهي تقترب منهم، وكانوا قادرين على التأهب للإغارة على تلك الفرق الأمنية. وهذا ما جعل فرق الأمن تخشى النزول إلى الأسفل. ولم تستطع الإحاطة بعدد العمال غير القانونيين الذين ستقابلهم في الطريق. كان المنقبون عن الذهب يلجون الحيز تحت الأرضي من المنجم وينتقلون عبر القنوات المتصلة بمنجم ثان أو ثالث وكان ما يستخرجونه من المواد الحاملة للذهب يخزن في مهابط غير مستخدمة، ومن ثم يسترجع على فترة من الزمن وفق الجامع الموضوعي المذكور و«غالبا بالتواطؤ مع المهربين من عمال المنجم. ومن ثم تُنقل إلى واحدة أو أكثر مما يزيد على 170 حجرة للصهر كانت تشغل داخل النزل المخصصة لإقامة عمال المناجم وفي مواقع أخرى داخل حقول الذهب في فري ستيت Free State». وقد خلص كاتبه إلى أن السرقات التي كانت تقوم بها مجموعات اللصوص والعمال والمهربين بلغت خمسة وثلاثين طنا من الذهب في السنة. وعند سعر وسطي قدره 350 دولارا للأوقية للسنوات التي أجرى دراسته عليها (1994-1998) تدفق ما قيمته 450 مليون دولار من الذهب المسروق خارج البلد سنويا. لقد حقق المنقبون القانونيون مكاسب كبيرة من تواطئهم مع اللصوص. ووفق تقرير أجرته إحدى الصحف كان رغيف الخبز الذي قيمته 48 سنتا يباع بمبلغ يصل إلى 12 دولارا تحت الأرض. وكان ثمة آخرون يحققون مكاسب من عمال زاما - زاما أيضا.