الإنكا والذهب

 

أولاً :

وقبل أتاوالبا دعوة الزيارة، وحدد موعدها في اليوم التالي. وعاد الخيالة إلى کا جا ماركا ليرسموا خططهم. كانت ليلة عصيبة على رجال بیزارو توهجت نیران معسكر جيش الإنكا لأميال على طول سفح الهضبة. ونشر بيزارو جنوده خشية الهجوم الليلي. واتخذ المشاة والخيالة مواقعهم في الزقاقات المحاذية للساحة الرئيسة ونصب بيزارو أربعة مدافع ووضع بعض المبارزين بالسيف في الحصن الصغير القائم على أحد أطراف الساحة. وفي الصباح، وصل رسول الإنكا معلنا أن الإنكا قادم برفقة رجاله المسلحين. وكان رد بیزارو الترحيب بقدوم أتاوالبا، باعتباره صديقا وأخا» له. وعند الظهيرة انتقل مضيف الإنكا إلى السهل ونشر جيشه وانتظر قدوم الإمبراطور. ورابط الإسبان في مخابتهم. وقد ذكر أصغر إخوة بيزارو واسمه بيدرو، أنه شاهد «العديد من الإسبان يتبولون لا إراديا من شدة الخوف». وحضر أتاوالبا في موكب مهيب. كان مرافقوه يرفلون بالحلي الذهبية والفضية. وسبقهم تشكيل من حاشية القصر في اللباس الموحد ذي المربعات المتناوبة في اللون فأجرى مسحا للأرض وانكب على تنظيف طريق الإنكا وطفقت الحشود حول الطريق تنشد لدى اقترابه ثم توقف الموكب قبل نصف ميل من المدينة، وقرر الإنكا الاستراحة في رحلته القصيرة. كان الوقت عصرا وشرع الجنود في نصب الخيم في أحد المروج المجاورة. وأرسل بيزارو وكان لايزال يخشى من شن البيروفيين (*) هجوما ليليا رسولا يحث الإنكا على القدوم للقائه تلك الليلة. ووافق أتاوالبا، وعندما بدأت أشعة الشمس الغاربة بالتلاشي، اتخذت حاشية الإمبراطور طريقها إلى مخالب التاريخ. كان معظم الجيش لايزال في المؤخرة. ورافق نحو خمسة آلاف محارب بأسلحتهم الخفيفة موكب أتاوالبا. وركب الإنكا محفة فضية حملها ثمانية من النبلاء ذوي الأثواب الزرقاء. 



ثانياً :

كان عرشه من الذهب الخالص، وسارت خلفه فصائل الرجال بحليهم الذهبية والفضية وقد ارتدى أتاوالبا تاجا وقلادة مرصعة بالزمرد وكان شعره مجدولا بالذهب. وكسيت محفته بريش الببغاوات وزينت بمشغولات زينية من الذهب والفضة ووصل الإمبراطور، وموكبه يشع بريقا وأبهة، وسط حاشية مهيبة إلى الساحة المركزية ثم توقف في منتصفها ووضع بيرقه على رمح وظهر على العلم الأصفر المربع المنتصب شعار الإمبراطور قوس قزح وشرابة الإنكا القرمزية وحولها حيتان منتصبتان وأجال أتاوالبا بصره فيما حوله بحثا عن الإسبان لكنه لم يرهم. فسأل بصوت مرتفع: أين هم؟» وفي هذه اللحظة، خرج الراهب الدومينيكي فنسانتي دي فالفيردي Vincent de Valverde من مخبأ بيزارو مقتربا من الإنكا، حاملا بيده كتاب التراتيل. ودعا أتاوالبا للدخول ومقابلة الحاكم، وهو الوصف الذي أطلقه الإسبان على بيزارو ورفض الإنكا، وطالب بإعادة كل ما نهبه الإسبان منذ قدموا إلى مملكته. وبدأ فالفيردي بتلاوة خطبة رسمية تعرف بالمطلب The Requirement وهو إعلان تطلب الحكومة الملكية الإسبانية من الجيوش الغازية تلاوته على الملأ قبل الشروع في أعمال القتل. ورفع الكاهن كتابه وتحدث من خلال مترجمه أن هذا الكتاب يمثل الديانة التي بعث لتبليغها إلى الإنكا وشعبه. وعاين أتاوالبا الكتاب مظهرا إعجابه بهذا الشيء (*) ، ثم قذفه جانبا باستحقار، وانقلب وجهه قرمزيا داكنا». وراح الراهب يصيح وينتحب. لقد أورد الإسبان في مذكراتهم روايات مختلفة للكلام الذي كان الراهب يردده بينما راح يصرخ، ولكن مهما كان كلامه كانت تلك الإشارة التي انتظرها بيزارو وأطلق المدفع المتواري النار على صفوف أتباع الإنكا المحتشدين واندفع الخيالة من مخبئهم. كان الإسبان قد صقلوا دروعهم وعلقوا الخلاخل على أحصنتهم ليث أعظم الرعب في النفوس . كانت الخيول مرعبة بأي حال، فهي وحوش تفوق حجما مثيلاتها في الأنديز، فكانت تنخر وتصهل فيما راح خيالتها يقودونها نحو الحاشية المحتشدة، وهكذا حصد الفولاذ الإسباني حملة الأسلحة الخفيفة. واخترق الخيالة صفوف جنود أتاوالبا مثل رتل من المدرعات وهمز بيزارو حصانه ليقتحم حشود المتحاربين، ثم انتهى إلى محفة الإنكا، فأخذ بذراع أتاوالبا وحاول سحبه من مكانه.



ثالثاً : 

 لكن موضع الإنكا المرتفع، وكان محمولا على أكتاف حاشيته، حال دون ذلك. وقطع ملازمو (**) بيزارو أذرع بعض حاملي المحفة الذين ظلوا يرفعونها على أكتافهم. وأخيرا في باك الدامي قلب الإسبان المحفة وسقط الإنكا بين الحشود لكن حاشيته لم تتخل عنه. وقتل الجميع كل الرجال من أركان حاشيته، في المذبحة. وبينما كان بيزارو يحاول القبض على الإنكا تواصلت المذبحة، ولم يكن أمام الجنود من السكان الأصليين مجال للهرب بعد أن حُشروا في حيز محدود ينتهي إلى بوابات ضيقة. ألقى بضعة آلاف بأنفسهم على الجدار وهدموه، ثم فروا إلى السهل. واندفع الخيالة في إثرهم، فأوثقوهم في أثناء فرارهم، وراحوا يفتشون عن كل من ارتدى الزي الرسمي الموحد للإنكا. كان جنود بيزارو لايزالون يقذفون الإنكا بالرماح بعد أن أرخى الليل سدوله، وفقا للروايات الإسبانية. وانطلقت الخيالة تدوي في السهل المظلم، وكان الخيالة والخيول كالقناطير (*) الذين غطتهم الدماء. لقد بدوا للبيروفيين عصيين على القتل. ولم يرجعوا إلى الساحة المركزية إلا عندما أمر بيزارو نافخ البوق أن يرسل إشارة الاستدعاء. وقد زعم بعض الكتاب الإسبان أن ستة آلاف بيروني قتلوا في تلك المذبحة. ووفقا لهيمينج كتب ابن أخي أتاوانبا أن الإسبان قتلوا الهنود الحمر ذبحا كما يحتز الجزار رؤوس الأغنام كان العدد الإجمالي للقتلى مروعا، وإن افترضنا أن العديد من الهنود قضوا تحت الأقدام أو اختناقا، أو أن تقديرات عدد القتلى مبالغ فيها. كان عدد الهنود الذين ذبحهم الإسباني الواحد بالمتوسط أربعة عشر أو خمسة عشر من سكان البلاد الأصليين العزل على أساس العدد الإجمالي وقدره 3 آلاف في أثناء تلك الساعتين المروعتين. وبينما كان شعبه يتساقط في أكوام دامية كان الإنكا يساق مخفورا بالحرس إلى المعبد القائم في الساحة الرئيسة. وأصدر بيزارو أوامره بإحضار الثياب الجديدة لاستبدال ملابس أتاوالبا المهلهلة، التي تمزقت في الاشتباكات. 



رابعاً : 

وعامل بيزارو أسيره باحترام وتساءل الإنكا إن كانوا يعتزمون قتله، وأجاب بيزارو بالنفي - باعتبار أن أتباع المسيحية لا يقتلون بدم بارد وإنما في حماة المعركة. وسألوا سجينهم كيف لقائد مخضرم أن يقع في مثل هذا الفخ الذي لا ينطلي على أحد. وقد تبين أن أتاوالبا حصل على معلومات استخباراتية مغلوطة عن القدرات القتالية للإسبان. ولم يتوقع أن يشكلوا أي تهديد له، وهو الملك الظافر المؤيد بثمانين القناطير Centaurs مفردها قنطور، وهو كائن أسطوري بجسد حصان وجذع ورأس إنسان في الأساطير الإغريقية).

ألف مقاتل. وكان ينوي أسرهم (1) وقتل بعضهم، وإخصاء الباقين. لقد أراد الاحتفاظ بالخيول فقط. وبوقوع الإنكا في أيدي الإسبان (20)، سقطت إمبراطوريته في أيديهم أيضا. وسمح بيزارو لأتاوالبا بأن يبث الخبر بأنه لايزال على قيد الحياة. ونظرا إلى صفته المقدسة وإن كان في الأسر، فقد ظل الإنكا القائد للجيش والشعب. وقد خولته سلطته التفاوض حول إطلاق سراحه، وعزم على ذلك.


خامساً :

 لقد تبين أن لدى الإسبان شهوة للذهب. ولم يفهم سبب ذلك تماما؛ لأن الإنكا كانوا لا يستخدمون النقود إذ إنهم كانوا يرون الذهب من منظور قيمته الاستعمالية (21) . واستخدم الذهب في زينة النبلاء وفي الشعائر المقدسة، لكنه لم يكن في هذه الاستعمالات الخيار الأول بين المواد الأخرى. فقد غلبه اليشب وبعض أنواع الريش في هذا المجال. ومع ذلك، كان الذهب غاية الجنود البيض وقرر الإنكا أن يعطيهم كل ما أرادوا، ظنا منه أن ذلك كفيل بعودتهم من حيث جاءوا. ويمكن للمرء أن يرى اليوم في كاجا ماركا (22) الحجرة التي عرض أتاوالبا أن يملأها بالذهب في مقابل إطلاق سراحه يبلغ طول الضلع الأول للغرفة 27 قدما والآخر 22 قدما. وقد عرض الإنكا أن يملأها بالذهب في شهرين إلى ارتفاع يعادل مستوى ذراعه الممدودة إلى الأعلى. وقبل بيزارو العرض. وسجل أحد الكتبة تفاصيل الصفقة. وانطلق رسل الإنكا في أنحاء إمبراطوريته، وبدأت مشغولات الذهب تتدفق عبر الطرقات الملكية إلى كاجاماركا. كانت ثمة كؤوس وآنية وتماثيل مصغرة بديعة الصنع تصور حيوان اللاما، وطيور ذهبية وأشجار، وكان بينها اختراع يشبه نافورة تقذف الذهب.