الذهب في تشانج شان هاو

 

أولاً :

في أول الأمر اتخذت سيارتنا طريقا دوليا سريعا ذا مسالك أربعة، متعرجا عبر سفوح الهضاب. وكان السائق يبطئ سرعة السيارة كل بضعة أميال إلى حد الزحف وقد تهادى بجوار سيارة شرطة متوقفة، وعندما تجاوزها انطلق مرتدا إلى سرعته الطبيعية. وفي سلسلة من الانطلاقات السريعة شققنا طريقنا عبر الجبال باتجاه السهل إلى أن ابتعدنا عن مرأى الشرطة، وزاد السائق السرعة باطراد إلى مستويات خطرة. واندفعنا عبر الطريق السريع مدة نصف ساعة. وشاهدت الألق الأخضر للمزروعات بعيدا إلى اليسار وفجأة ومن دون سابق إنذار أدار السائق المقود وخرج من الطريق السريع إلى مسار طيني غير واضح المعالم، ينحدر إلى قعر جدول جاف. وارتجت المركبة و«نخعت» فوق الحصى والرمال الناعمة، مطلقة سحائب دخان حمراء عبر غطاء المحرك. لا بد أن هذا الطريق كان طريقا مختصرا معروفا في المنطقة واقترب مناصف من الشاحنات الزرقاء الكبيرة بحمولات تنتفخ كأرغفة الخبز. وتقاذفت المركبات سحبا من السخام بلون القرفة استقرت على زجاجها الأمامي، فيما كنا نبتعد عنها. وبلغنا طريقا مرصوفا ، ثم اندفعنا عبر طريق سريع تحفه أشجار الحور. كانت الأكواخ الكتيبة المتداعية تلوح وتختفي من بعيد وعند أحد تقاطعات الطرق قامت قرية صينية صغيرة بجوار بعض متاجر المحركات ومقهى لسائقي الشاحنات ومررنا بموقع لإنشاءات السكك الحديد كانت ثمة حافة مرتفعة فُرشت بالحصى، وكانت تمتد مثل مسطرة عبر السهل، واصلة خط الأفق بخط الأفق المقابل، وقد تُرك فيها هامش بسيط للطريق السريع.



ثانياً :

 بدت حدبات تلال المدافن المنغولية عبر السهب وكانت تظهر أحيانا قبور متقنة مبنية من الإسمنت المكسو بالطلاء وتعلو كلا منها قبة ،وطيئة، وأمامها فناء محاط بجدار أبيض خفيض. ورحت أتخيل المغول وهم يعتلون صهوات جيادهم مندفعين عبر هذا السهل في القرن الثالث عشر - بأعتى جيوش الخيالة التي عرفها العالم قاطبة. يخشى المنغوليون اليوم من أن أعمال التنقيب وهجرة الصينيين الأصليين ستأتي على ما تبقى من حياتهم الرعوية. قبل ذلك بشهر زرت تلك البقعة في يونيو الإقليم 2 (20) 2011، وقد سببت احتجاجات المنغوليين نزول شرطة الشغب إلى شوارع عاصمة هوهوت Hohhot بعد أن دهس سائق شاحنة راعي أغنام منغوليا فأرداه قتيلا بينما كان يحاول منع موكب شاحنات الفحم من عبور المراعي الخضراء. وأعدمت الصين سائق الشاحنة (2)، ولم يحل شيء دون مرور موكب الشاحنات. شاهدت مرتين في غضون ساعتين رعاة الأغنام في البعيد يسوقون الحيوانات تحت السماء المكفهرة. كانت السحب السوداء تتراكم منذ ساعة، ثم هبت ريح شديدة مصحوبة بالمطر. وكانت تقرع على سقف السيارة. وعند بوابة جباية الرسوم على الطريق السريع توقف منغوليان شابان ودراجتهما محملة بالأمتعة، للاحتماء من المطر. وما وراء ذلك، انخفض الطريق السريع باتجاه نهر فاض من هطول الأمطار. وانجرفت كتل الطين عبر الطريق فشكلت منزلقا مزبدا، وتماهت الحفر إلى جداول جارية. وسارت سيارتنا ببطء شديد عبر الطريق وماسحات الزجاج تخفق جيئة وذهابا . ثم بلغنا منجما يديره اللصوص. لقد هجر الموقع بسبب الأمطار. كانت ثمة جرافة أمامية وشاحنة اصطفتا بجانب أحد الأكواخ وانبعث دخان إحدى المداخن مندفعا أسفل الجدار. كانت هناك مصوّلات (*)) ومنخل بجانب النهر ، وكانت ثمة منحدرات للشاحنات التي تجلب الفلز. 



ثالثاً :

لقد حول المنقبون مجرى النهر، وعمقوا قاعه، وشطفوا الحصى عبر المصولات لجمع حبات الذهب. وقد أشاعوا الفوضى بالنهر على امتداد أميال، ولا بد أنهم قدموا الرشى للمسؤولين المحليين. في بعض الأحيان شاهدت المنقبين في الصين يبحثون في الأنهار وفي أثناء وجودي في تشانجدونغ شاهدت عمال رصف الطرقات السريعة ومعهم حفارة ذات مجرفة خلفية، وراحوا يعرفون بها الماء من أحد الجداول لتزفيت الطريق، وبينما هم يفعلون ذلك كانوا يمررون الحصى عبر المصولات وبالقرب من تشانغ شانها و قام المنقبون غير القانونيين بنسف الهضاب باستخدام الديناميت فسحقوا الفلز وجمعوا التربة الغنية بالذهب في أكوام الترشيح. كانت الأكياس الورقية التي تشبه أكياس الإسمنت مكدسة بالقرب من الفلز. وقد احتوت الأكياس على قويلبات (*) سيانيد الصوديوم. وشطف المنقبون السيانيد باستخدام مياه الجداول المحلية وجعلوا المحلول يرشح من خلال الأكوام لاستخلاص الذهب. كانت صفائح بلاستيكية رخيصة الثمن موضوعة أسفل الأكوام تلتقط رواسب سيانيد الصوديوم. وجمع اللصوص المادة المركزة وشحنوها إلى محطات تكرير (مصافي) صغيرة في باوتو كانت تعالج الخام وتضرب الذهب في سبائك وصلنا إلى رقعة ممتدة من المراعي الخضراء تحفها التلال البعيدة. كان هناك حصن متهدم بالقرب من الطريق. وطوقت بوابته أبراج متداعية. وامتدت الاستحكامات الدفاعية نحو ألف قدم في الجانب البعيد. 



رابعاً :

تبدو آثار النزاع الصيني - المغولي محفورة في تضاريس الإقليم. وتتبدى أسوار قديمة وتختفي في الصحراء. وعلي خريطتي الصينية كانت تلك الأسوار جميعها تسمى «سور جنگیز خان» كان الحصن من بقايا ذلك النزاع القديم أيضا. وكانت تقوم بجواره مجموعة من بيوت المنغول وبعض حظائر الماعز. رحت أراقب فتاة مغولية تهش ماعزا حرونا بحبل معقود وتطاير ،رداؤها وضربت الماعز بحركة خاطفة من ذراعها، وحاول الماعز عبثا تفادي الضربة وانتقلنا بالسيارة مسافة ميل عبر الطريق، ودلفنا من خلال بوابة منجم الذهب كان ثمة صف من الشجيرات يقاوم الرياح. وعند سفح إحدى التلال، كان هناك رسام يقف متوازنا على سلم وقد انكب بجد يرسم بالفرشاة صورة لمجموعة من راكبي القوارب على قبة الباجود (*)*). لقد اتبعت شركة الذهب الصينية China Gold سياسة تقضي بتجميل مناجمها على المتحدر أعلى الباجودا كان يقوم بيت اليورت Yurt وهو خيمة المنغول التقليدية المصنوعة من الجلد، وتبدو للعيان شاهدا على ماضي البلاد. كان يعوز موقع المنجم وجود المساكن، وكان بيت اليورت يكتظ بالعمال الصينيين. في أعلى التلة طريق يفضي إلى نقطة مراقبة. ومن تشانج شان ها و كان السهل يمتد غربا إلى آسيا الوسطى. وتراءى في مخيلتي جميع الذين عبروا هذه الصحارى. في العام 1935 قام بيتر فليمينج Peter Fleming أخو إيان فليمينج) برحلة في سبيل المغامرة استغرقت سبعة أشهر من الصين إلى كشمير. وقد وصف في مؤلفه أخبار من بلاد التتار» News from Tartary من صادفهم في رحلته من الحكام الصينيين في المناطق النائية وحجاج التبت وأحد الأمراء المغول وجماعات صغيرة من المنقبين عن الذهب بالشطف والمنقبين عن الذهب الرسوبي الجوالين الذين جابوا جداول آسيا الداخلية مثل هذه الجماعات كانت تنقب عبر القرون عند التضاريس السطحية للجيوب العظيمة التي يكشف النقاب عنها اليوم. كان في منجم تشانج شان ها و تسع عشرة منصة حفر تعمل داخل نطاق ضيق بطول ثلاثة أميال وعرض 200 ياردة (2) في الماضي تتبع المنقبون أثر الفلز إلى عمق 500 قدم، وكان الجيب الفلزي «ذا نهاية مفتوحة من الأعماق»، أي أن أعماق آبار الحفر لم تصل بعد إلى نهاية كتلة الفلز.



خامساً :

 وقد استدعت خطة التنقيب حفر 175 ألف قدم إضافية من آبار التنقيب. ويتوقع أن يضاعف المنجم احتياطياته من 168 مليون طن من الفلز إلى أكثر من 300 مليون طن، أو نحو 5 ملايين أوقية من الذهب. وكان يتوقع أن تؤدي توسعة محطات معالجة الفلز إلى زيادة الناتج إلى 260 ألف أوقية سنويا بدءا من العام 2015. صعدنا بالسيارة إلى فتحة المنجم على الطريق المحيط، وترجلنا عند منصة مشرفة على الأراضي المجاورة لمعاينة المكان. كانت الشاحنات الناقلة للفلز، الحمراء والصفراء، تتجمع بأعداد كبيرة عند فتحة المنجم. وكانت صفوف المركبات المحملة بالفلز الأسود الرمادي تتسلق المرتفع، فيما راحت المركبات الفارغة تهبط نزولا إن نظرة واحدة تكفي ليتبين المرء أن الأمور لم تكن على ما يرام. بعد أن تأملت برهة الحركة النشيطة ،أمامي أدركت السبب في ذلك إذ تنم الحركة أمام فتحة المنجم عن عدم انتظام في حركة المرور، مقارنة بحال المناجم في الدول الغربية كانت فتحات المناجم المفتوحة التي عاينتها ذات يوم خلوا من التكلف، لا بل مهيبة في مظهرها، على عكس فتحة المنجم المزدحمة في تشانج شان هاو.