سرقات المناجم

 

أولاً :

وقد أخبرني العقيد بوليلا بأن: «لعمال المناجم علاقات مع الشرطة، وعلينا أن نعترف بأن أولئك الذين يجدر بهم أن يحاربوا التنقيب غير القانوني كانوا في الحقيقة ضالعين فيه». لقد عبّر ،بوليلا بما أكده سابقا عن اعتقاد سائد في جنوب أفريقيا - ألا وهو أن الفساد يضرب أطنابه في أوساط الحكومة كانت الشرطة تساعد على نهب المناجم وخلف الشرطة كانت هناك القوى المسيطرة التي تحركها. وقد رأى بأم عينيه شبكات من الأغنياء والمتنفذين، من أوساط السياسيين وأرباب الجريمة، وهم ينهبون المناجم. كان الذهب المسروق يتنقل بين أيدي جماعات الجريمة المنظمة في جنوب أفريقيا إلى عملاء في الخليج العربي والهند وروسيا حيث كانت عملية غسل أموال الذهب تتم عبر شركات وهمية ليباع بعدها إلى تجار السبائك القانونيين. 


ثانياً :

ووفق العقيد بوليلا كانت سرقات المناجم تهدد استقرار جنوب أفريقيا من خلال تقويض ثقة المستثمرين. وقد ارتفعت تكاليف أمن المناجم بحدة» - وفق ما ذكر فخلقت حالة أحدثت أضرارا فادحة بمصالح شركات التنقيب عن الذهب بحيث لجأت جنوب أفريقيا إلى طلب العون من الولايات المتحدة في مجال مكافحة التجارة الدولية بالذهب المسروق لكن ما الجهة في جنوب أفريقيا، التي طلبت هذا العون؟ ليست اللصوص طبعا. ولم يكن العقيد بوليلا الخبير الوحيد الذي ثارت لديه الشكوك بشأن تورط من سماهم الأطراف الفاعلة في المجتمع الجنوب أفريقي». لقد خلص بيتر جاسترو Peter Gastrow ، وهو الذي أعد دراسة للعام 2001 لمصلحة الصناعة، إلى النتيجة نفسها ضلوع نخبة تتمتع بالحصانة في سرقة الذهب.


ثالثاً :

وعندما التقيت جاسترو في مدينة نيويورك في العام 2012، وهو محام جنوب أفريقي، كان زميلا أول في معهد السلام الدولي، وكان يعمل مديرا لبرامجه. وتركز مجال عمله الأساسي على الجريمة العابرة للدول Transnational Crime، وقد عمل في السابق مديرا لمعهد الدراسات الأمنية في كيب تاون، ونائبا عاما في جنوب أفريقيا، وكان خبيرا في الجريمة المنظمة. وقد ذكر لي الآتي: «في اعتقادي أن مطاردة لصوص الذهب في جنوب أفريقيا باتت تصطدم بعقبات سياسية أشد. تخيل أنك كنت شرطيا عاديا، وكان المتنفذون هم المتورطين. إنها بيئة حافلة بالتهديدات ليس فقط بسبب الخارجين على القانون، ولكن أيضا بسبب أصحاب النفوذ الواسع». وأشار جاسترو إلى أنه لم يضع يده إلا على رأس جبل الجليد» في تحقيقاته. ويقول: «كنت أعتقد أني أعالج ظاهر المشكلة ولم أنفذ إلى باطنها. وكان لدى شركات التنقيب الاعتقاد نفسه. وقد تركت عملي ذاك وساورني شعور بأن سرقة المناجم] ستتحول إلى صناعة هائلة الحجم في المستقبل. كان المتنفذون متورطين. وقد تحدثت إلى شركات التنقيب، وكانت قلقة بصورة جدية حيال ذلك الأمر». كان لدى تلك الشركات سبب وجيه يدعوها إلى القلق ففي منجم باربرتون Barbertone(2) بإقليم مبومالانجا على سبيل المثال كانت أعداد لصوص الذهب داخل المنجم تضاهي أعداد من يعملون لمصلحة الجهة المالكة للمنجم. ولإزاحة هذه القبضة المحكمة عملت شركة بان أفريكان ريسوروسز Pan African Resources المالكة للمنجم، على زيادة ميزانية الأمن بنسبة 237 في المائة في سنة واحدة، بإجمالي قدره مليون دولار شهريا كانت ثمة حوامة تقوم بدوريات جوية للمراقبة. واعتقلت الشرطة في العام 2010 رؤساء ستة من تحالفات العصابات السبعة التي يعتقد أنها تمارس أعمال النهب في منجم باربرتون، وأعلنت الشركة أنها تمكنت من اللصوص. لكن ذلك كان ادعاء مشكوكا فيه. ذلك أن الشرطة المختصة بمتابعة سرقات الذهب وفق جاسترو، لم تقدم تقديرات مماثلة لعدد تحالفات العصابات الضائعة في نهب المناجم. ويمكن أن نخلص إلى إحدى نتيجتين حول زمرة محددة من الشرطة: فهم إما يعرفون تماما قيمة الذهب المسروق لأنهم كانوا يسهلون سرقته، وإما أنهم لم يعلموا بقيمة الذهب المسروق مع أنهم كانوا يسهلون سرقته. وفي اعتقادي أن الفرضية الثانية هي الصحيحة.

رابعاً :

 فالحقيقة أن لا أحد يعلم شيئا، باستثناء أن ثمة الكثير من الذهب المسروق وقد حدثني ويلي جاكوبز Willie Jacob نائب رئيس أول في شركة جولد فيلدز Gold Fields وهي من كبرى شركات التنقيب في جنوب أفريقيا، أن الصناعة (*) كانت تخسر 10 في المائة من فلزاتها لمصلحة اللصوص. وبعبارة أخرى، (22) (***) حال في منجم واحد فقط من مناجمها ، وهو ساوث ديب South Deep، أنتجت شركة جولد فيلدز 273 ألف أوقية من الذهب في العام 2011. وبسعر وسطي تحفظي قدره 1600 دولار للأوقية، تبلغ قيمة ذلك الذهب 436 مليون دولار. وبتقدير جاكوبز كان اللصوص إذن يسرقون أكثر من 43 مليون دولار من أموال الشركة تحت أنظارها. وهذا يعلل مستوى السعر الجنوني الذي بلغه الذهب. كم شركة تستطيع (2) زيادة أرباحها بنسبة 26 في المائة في فصل ) من السنة، كما . هو شركة جولد فيلدز في الربع الرابع من سنة 2011 بينما اقتطعت نسبة 10 في المائة من إيراداتها مباشرة؟ لكن مهلا - لقد بات الأمر ينطوي على المزيد من الإثارة. فقد أبلغني مدير إحدى شركات التنقيب، وكان على اطلاع وثيق بأحوال صناعة التنقيب عن الذهب في جنوب أفريقيا - وطلب عدم الإفصاح عن اسمه - أن السرقات تفوق ذلك الحجم على الأرجح - بل إنها في واقع الأمر، ضعف ذلك. لقد أورد مستشار أمني استأجره مجلس إداوته أنهم كانوا يخسرون ما يصل إلى 20 في المائة في أحد مناجمهم الأكثر تطورا وبهذه العملية الحسابية، يمكن القول إن أكثر من 80 مليون دولار من الفلز يمكن نهبها من منجم مثل ساوث ديب في السنة. لقد سألت العديد من محللي أسهم شركات التنقيب إن كان لديهم تصور واضح عن السرقة. وقد أبلغوني أن أصحاب المناجم لا يفصحون عن تلك الخسائر علانية، ولكنهم يقدمون بيانات لاحقة لعملية السرقة» إلى المحللين. ومع فمن «المسلم به أن السرقة أكبر الآن مما كانت عليه عبر تاريخ البلد» وذلك وفق ليون استرهویزن Leon Esterhuizen، رئيس وحدة المناجم والمعادن لدى مصرف سي آي بي سي CIB Bank الذي يتخذ من لندن مقرا له، وهو محلل مخضرم ذلك، مختص في مناجم ذهب جنوب أفريقيا. لقد رأى استرهويزن هذه الصناعة تنهب عن سبق الإصرار من قبل العقول المدبرة الإجرامية ذات الثراء الواسع، التي تلازم أماكنها، وتقدم إلى كبار المسؤولين مبالغ مالية تفوق رواتبهم بعدة أضعاف، فقط في مقابل أن يغضوا الطرف». وهو يعتقد، على غرار بوليلا وجاسترو، أن اللصوص لديهم علاقات وثيقة داخل صفوف الشرطة والدوائر السياسية». 

خامساً :

وفي جنوب أفريقيا ثمة كليبتوقراطية (*) تتغذى على حياض الذهب لقد كان الذهب معينا على بناء البلد، وهو الآن معين على إفساده. لقد وقعت الدولة برمتها في غواية هذا المعدن. يحبذ أشد المناصرين والمتحمسين للذهب القول إن البشر يعتقدون دائما بقيمة الذهب، وإن الذهب يستمد قيمته من قبوله العام. بيد أننا لا نعلم ما يجول في خاطر الناس دائما كانت طلائع المنقبين عن الذهب لا تعرف الكتابة، وهم لم يخلفوا وراءهم كتابات تشرح أفكارهم. ولا نبالغ إن دفعنا بأنهم شُغفوا بالذهب، لأنهم اقتنوه. كان بحوزتي كاتالوج (مصنف) صغير بعنوان كنوز تراقيا Thracian Treasures (24) الموجودة لدى متحف فارنا في بلغاريا اشتهرت تراقيا في العالم القديم بمناجم الذهب. بعض التحف المصورة في الكاتالوج تعود إلى ما قبل 6 آلاف عام. وهي تعتبر أقدم تحف العالم الذهبية، وقد اكتشفت مصادفة في العام 1972 عندما أماط عامل جرافة عكسية اللثام عن قبر من العصر الحجري الجديد المتأخر في فارنا على البحر الأسود. أساور وأطواقا ومخلبا من الذهب الخالص مع أسطوانة مهشمة، ودرعا للصدر صغيرة مساحتها أربع بوصات مربعة وشريطا حلزونيا بثخن الورقة شبيها بشريطة ذهبية. كان وزن الشريط عُشر الأوقية هل استخدمت كل تلك الأشياء إلا الأغراض الزينة؟ فاستخرج لم تكن لهذه التحف التراقية استخدامات عملية. كانت مجرد تحف بديعة. وبوسعنا أن نتخيل ما كان يستهوي أولئك الذين صنعوها - بريق المعدن، وسهولة تشكيله، ومقاومته للتآكل. وفي عالم الدنيا الفانية، كان الذهب ذا بريق وحسن سرمديين. وفي يومنا الحاضر يتوافر طيف واسع من الأصول الأخرى (53) يتجاوز ما كان عند التراقيين، غير أن الذهب لايزال في المقدمة، محافظا على مكانته بفضل حدث غير مسبوق وقع في ليديا بآسيا الوسطى في العام 635 قبل الميلاد - اختراع النقد الذهبي (26) انتشر النقد الليدي في أرجاء حوض البحر المتوسط.

وكان أثره في مكانة الذهب على صعيد الحياة العامة هائلا أصبح الذهب بالنسبة إلى الدول، ضرورة لا بد منها. لكن بحلول القرن الرابع عشر ا بعد مرور ألفي عام بلغ العرض العالمي الإجمالي من الذهب حجم مكعب طول ضلعه ست أقدام. كانت الدول متعطشة للذهب، وكانت دور سك العملة في أوروبا تغلق أبوابها وأطلق المؤرخ المالي بيتر بيرنشتاین Peter Bernstein على تلك الفترة اسم «التعطش المقدس» Sacred Thirst للذهب. لقد أذكى ذلك التعطش فورة الذهب الأولى - كانت مغامرة وحشية وفتاكة وعنيفة وإجرامية - ابتلعت حضارة بكاملها وتقيأتها في صورة مسكوكات نقدية.