الإسبان والذهب

 

أولاً :

ذهل الإسبان من كمية الذهب الموجودة. كان مذبح الأضاحي المصنوع من الذهب الخالص (23) في كوتزكو يزن نصف طن على الأقل. وبلغ وزن النافورة الذهبية أكثر من 700 رطل. وفي قدس أقداس أحد المعابد وجد الجنود الإسبان عجوزا ترتدي قناعا من الذهب، وقد جلست لطرد الذباب عن رفات أباطرة الإنكا الموتى. كان كنز حاكم الإنكا هناك في متناول الجميع. لقد أذهلت الكنوز العجيبة الإسبان (24)، فتحدثوا عن حدائق صغيرة مصنوعة من الذهب كانت فيها كتل التراب وأكواز الذرة من الذهب الخالصكانت ثمة كؤوس ذهبية مرصعة بالزمرد إذ كان صاغة الإنديز يصنعون المشغولات منذ ألف عام، من نحو العام 500 قبل الميلاد. وكانت بعض المشغولات التي جمعت تعود إلى عصر سابق، وبدا فيها التأثير الصيني والفيتنامي، مما يعني أن الرحالة الآسيويين ربما سبقوا الإسبان إلى البيرو بألف عام. 



ثانياً :

وقد احتفظ بيزارو ببعض هذه المشغولات ليبهر بها البلاط الإسباني وصهر الإسبان البقية. واستطاعوا أن يجمعوا (25) في شهر واحد ما يعادل 1326539 بيزو ذهبيا ، أي نحو 340 مليون دولار في عملة هذا الزمان. وبلغ وزن الغنائم خمسة أطنان وهذا لا يشتمل على العرش المصنوع من الذهب الخالص الذي يزن 190 رطلا وعادلت حصيلة شهر واحد من السبائك الذهبية إنتاج عام كامل من الذهب الأوروبي. لكن هذا لم يمنع الإنكا من أن يشتري حريته به. لقد وجد بيزارو في شخص أتاوالبا وسيلة لاستنزاف ذهب البيرو (26). كان شخص الإنكا مقدسا كان محاطا وهو في حجرة سجنه، بنسائه وأخواته فقط، وكن يقمن على خدمته ويطعمنه بأيديهن. وارتدى الإنكا ملابس ناعمة لم تقع أعين سجانيه على مثلها البتة كان جلبابه مصنوعا من جلود الخفاش مصاص الدماء وعندما كان الإنكا يبصق كانت هناك امرأة تلتقط لعابه بيديها. وكل ما لمسه - من نباتات الأسل التي وطئها، وعظام الطيور التي تغذى عليها - جُمع في صناديق جلدية ثم أحرق، ونثر الرماد في الريح لكي لا تقع أيدي الآخرين على ما لمسه الإنكا. وعندما جاء سادات القوم لزيارته كانوا يقبلون قدميه ويديه. ولم ينظر الإنكا إليهم. وباعتبار الصبغة المقدسة للإنكا (2) ، كانت أوامره لجلب الذهب إلى كاجاماركا مطاعة؛ ولم تكن حالته في الأسر لتغير ذلك. لقد حكم إمبراطور الإنكا من خلال قادة جيشه. كان ثمة 75 ألفا من الجيش المرابط في كاجاماركا لايزالون معسكرين أعلى المدينة. وكان 35 ألف مشاة جندي تحت إمرة قائد جيش أتاوالبا رابضين بين كاجا ماركا كوتزكو وكان مع القائد الذي انتزع كوتزكو من قبضة شقيق إمبراطور الإنكا 30 ألف جندي مشاة لحماية العاصمة، وإزاء هذه الأعداد لم تكن الأفضيلة التي رجحت كفة الفولاذ الصلب والخيول كافية لإنقاذ الإسبان لو أن البيروفيين هجموا بقضهم وقضيضهم. لكنهم لم يهجموا لأن إمبراطور الإنكا طلب منهم ألا يفعلوا. وهذا يفسر سبب مجموعة صغيرة من الخيالة تحت إمرة شقيق بيزارو الانتقال من كاجامارا إلى استطاعة كوتزكو وتجريد معبد الشمس من سبعمائة صفيحة ذهبية زنة كل منها أربعة أرطال ونصف الرطل، وتقفل عائدة إلى كاجاماركا من دون أن يمسها الأذى. في 14 أبريل 1533(28) وصلت التعزيزات الإسبانية التي طال انتظارها إلى کاجاماركا من الساحل لتعم البهجة أوساط الحامية. كان بيزارو ينتظر وصول الجنود المائة والخمسين وبوصولهم تضاعف عدد القوات المحتلة تقريبا.



ثالثاً :

 قد يبدو أمرا سخيفا الحديث عن ثلاثمائة رجل يحتلون» إمبراطورية جبلية امتدادها ثلاثة آلاف ميل حيث كان تحت إمرة الضباط الأشداء أكثر من مائة ألف مقاتل. ومع هذا، فقد كانت ناصية الملك - الإله بيد الإسبان، وكانت ناصية رجاله بيده. وبدأت المخاوف تساور أتاوالبا عندما علم بوصول التعزيزات، إذ اعتبر ذلك مؤشراً إلى أن الإسبان يعتزمون البقاء. وأدرك أن فدية الذهب لن تكفي لحملهم على الرحيل. كان كالغريق يتعلق بقشة أنهم سيحترمون الصفقة المبرمة بين الطرفين ويطلقون صراحه. وظلت الكنوز تتدفق إلى كاجاماركا وأقام بيزارو تسعة مسابك كانت تصهر نحو ستمائة رطل من الذهب يوميا وتجعلها في سبائك ودمغوا الذهب المصهور حديثا بالشعار الملكي الإسباني وأضافوه إلى مخزون الذهب الآخذ بالازدياد. ولو أن الذهب ظلت فيه أثارة من قداسته، فقد طمسها الإسبان في كاجاماركا وتلاشى نتاج آلاف السنين من الأعمال الفنية في أفران الصهر لا بد أن هذا من أقسى مشاهد التاريخ - تحويل حضارة برمتها إلى نقد في يوم واحد فقط سارت قافلة قوامها 253 من حيوانات اللاما باتجاه كاجامارکا حاملة الذهب والفضة. كان لكل إسباني الحق في حصة محددة مشروطة، وأحصى الكتبة كل أوقية وسجلوها. وفي نهاية المطاف كان الجندي الراجل يحصل علي نحو خمسة وأربعين رطلا من الذهب وضعف هذا الوزن من الفضة، أما فرد الخيالة فنال ضعف ذلك. وحصل فرانسيسكو بيزارو على 630 رطلا من الذهب ونصف طن من الفضة، إضافة إلى عرش أتاوالبا مكافأة له. وكان للملك الحق في نسبة الخمس من كل شيء - أي الخمس الملكي Royal Quinto. وكان موظفو البلاط الإسباني حاضرين للتحقق من حصول الملك على الخمس. وسُجل كل شيء في دفتر اليوميات وعلى صرير الأقلام، كان إرث الإنكا يمضي إلى الفرن، وكان نهرٌ من الذهب يتدفق نحو أوروبا. لكنه لم يضمن للإنكا حريته.



رابعاً : 

وفي 12 يونيو غادر هيرناندو بيزارو أكبر أخوي الحاكم بيزارو، كاجاماركا وشرع أتاوالبا بالنحيب، إذ رأى في مغادرته خسارة حام له. كان هيرناندو قد طمان الإمبراطور بأنه لن يسمح بقتله، وصدقه أتاوالبا. وقد غادر ذلك الحامي الآن، واقتربت ساعة إمبراطور الإنكا. تناهت إلى بيزارو الأنباء بأن قائد الإنكا رومينا في حشد جيشا تعداده 200 ألف مقاتل، وأنه زحف مسرعا من كويتو باتجاه الجنوب لمهاجمة الإسبان وتحرير إمبراطور الإنكا. وظن بيزارو أن أتاوالبا طلب من قائد جيشه أن ينقذه. ويرى جون هيمينج أنه لا مجال لإثبات ذلك. وفي كاجاماركا كان مزاج الإسبان أقرب إلى الهلع. ونادى فصيل متنفذ في أوساط الإسبان مطالبا بإعدام إمبراطور الإنكا بتهمة «الخيانة».



خامساً :

 ويروى أن بيزارو انتحب لتوسلات إمبراطور الإنكا بالإبقاء على حياته. وفي النهاية لم تعقد أي محاكمة، بل اجتمع مجلس بيزارو وقرر إعدام الإنكا رميا بالرصاص، وفي ليلة 26 يوليو اصطحب الجنود إمبراطور الإنكا إلى الساحة الرئيسة وأوثقوه بوتد وبدأ نفخ الأبواق ، أبلغ أحد الكهان أتاوالبا أنه سينجو من الحرق إن اعتنق المسيحية كان الموت حرقا إهانة الإمبراطور الإنكا، فقبل اعتناق المسيحية. وقام الكاهن بتعميده باسمه الجديد فرانسيسكو، على اسم بيزارو الأول. ثم قتلوه خنقا. C (30) وأدين بيزارو بهذه القتلة (29)، ثم بُرّئ منها، ثم أدين علنا مرة أخرى. وتشرذمت جماعته في الاقتتال على اقتسام ما سلبوه ونهبوه وعاد بعضهم إلى إسبانيا، ومات البعض الآخر في الاقتتال الذي دار بينهم ، وبدد البعض أمواله بالمقامرة. وعاد هيرناندو بيزارو إلى إسبانيا في العام 1540 حيث أودعه أعداؤه السجن. وظل في السجن عشرين عاما، وخرج منه مفلسا أما فرانسيسكو الغازي العظيم فقد قتل طعنا في العام 1541 على يد المتمردين في ليما، وكان جالسا إلى مائدته يتناول عشاءه. لكن الذهب بدل الأحوال المالية للغرب.